‏دولة بن بريك والمرحلة القادمة

د. محمد الحميدي:

‏ تدخل الحكومة مرحلة مفصلية تتجلى فيها الحاجة إلى الانتقال من إدارة الأزمات إلى هندسة الدولة وفق مقاييس مؤسساتية واضحة تتجنب الانزلاق في أفق ضيق لا يسع لمزيد من الإجراءات الترقيعية أو لتبريرات مستمرة أنتجتها الإدارات السابقة، وبهذا تصبح الحاجة إلى بناء منظومة قرار قادرة على صياغة سياسات متسقة وتنفيذها بصرامة أكثر وضوحًا من أي وقت مضى.

‏إن مفتاح التحول الحقيقي يبدأ من إصلاح الأدوات، فالإجراءات الجزئية لا تنتج أثرًا حقيقيًا ما لم تدعم بأجهزة تنفيذية كفؤة وشفافة، مع أهمية النظر إلى مسائلة توحيد الموارد وإغلاق ثغرات القنوات الإيرادية وترشيد بنود الصرف وفق أولويات اقتصادية واجتماعية محددة، ليصبح الإنفاق أداة لإنتاج القيمة وليس مجرد تدبير مؤقت، فالانضباط المالي بحد ذاته بوابة للإصلاح الإداري، ومن خلاله تستعيد الدولة قدرتها على الفعل وتنتقل من إدارة هشة إلى هندسة مؤسساتية صلبة قادرة على مواجهة التحديات بثقة وإرادة ثابتة.

‏لعل هيكلة الجهاز الحكومي يمثل مدخلاً حاسماً، يتطلب ذلك إلى إعادة تعريف العلاقة بين المركز والسلطات المحلية ضمن إطار مؤسساتي موحد يحد من ازدواجية الصلاحيات ويعزز آليات التنسيق والمساءلة والاستثمار في الكوادر الوسطية كنهج أساسي، إذ تشكل هذه الطبقة عماد تنفيذ السياسات وصيانتها من الاستقطاب والشللية التي أجهضت التجارب السابقة.

‏أداة الرقابة يجب أن تكتسب استقلالية فعلية ومرجعية تنفيذية مباشرة تختصر حلقات التأجيل وتفرض شفافية دورية في مراجعة الإيرادات والإنفاق. تقارير الأداء العلنية لا تهدف إلى إظهار الهشاشة، إنما إلى استعادة ثقة الجمهور من خلال محاسبة موضوعية وقابلة للقياس.

‏إن الدعم السخي المقدم من الأشقاء في المملكة العربية السعودية يوفر فسحة حيوية لإعادة ضبط المسار الاقتصادي ويتيح موارد مؤقتة لاستقرار العملة وتحريك النشاط الإنتاجي، ويتعزز أثر هذا الدعم حين يُؤطر بخطة وطنية قابلة للتنفيذ تحمي الموارد من التسرب وتربط الإنفاق بنتائج ملموسة في الخدمات والبنية التحتية، وضرورة توجيه هذه الموارد نحو برامج إنتاجية وخطط تنموية مستدامة تعيد بناء القاعدة الاقتصادية المحلية وتعزز فرص العمل والقدرة الإنتاجية، حتى نخرج من دائرة مدمني المعونات وننتقل إلى اقتصاد يعتمد على نفسه ويستعيد سيادته التنموية.

‏يتنامى في الشارع تفاؤل حذر، لكنه ثمين في دلالته خصوصًا في التوقيت، لأنه لا يصدر عن مجرد عاطفة، ولكن عن إحساسٍ بأن الحكومة بدأت تقترب من هموم المواطن وتتعامل مع الاقتصاد بوصفه قضية أمن وطني تتصل بمستقبل الدولة واستقرارها. غير أن هذا التفاؤل وعلى أهميته ورهافته معاً، يظل رهينًا بترجمته إلى نتائج محسوسة تُعيد انتظام المؤسسات وتمنح الناس يقينًا بأن التغيير ممكن.

‏الثقة هنا وفي هذا الظرف تحديدا ليست شعورًا عابرًا، وإنما مورد استراتيجي هام يزداد قيمته كلما أحسنا استثماره وتوجيهه، وحتى يترسخ هذا الجانب يتطلب توافقًا سياسيًا يهيئ للقيادة التنفيذية أدوات الفعل ويحصن القرار من شبكات التعطيل ومراكز النفوذ التي أعاقت مسار الإصلاح طويلًا. فحين تمنح الحكومة مساحة الحركة وتصان إرادتها المؤسسية، سوف تتحول الثقة الشعبية من حالة مؤقتة إلى رصيد وطني دائم يرفد مسيرة الدولة ويثبت أركانها.

‏إن دعم دولة رئيس الوزراء سالم صالح بن بريك في هذه المرحلة يمثل ركيزة للاستقرار ومسؤولية وطنية تتجاوز الأفراد إلى معنى الدولة ذاتها، إذ أن نجاحه في إدارة التحديات الراهنة سيعني فتح الباب أمام مرحلة جديدة من الفعل المنظم، حيث تتحول الإدارة والسياسة إلى هندسة قادرة على البناء بدلاً من إدارة الأزمات.

‏يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى